حقوق الإنسان والصحة

أبدأ هذه المحاضرة* بملاحظات أولية حول الموضوع كما يظهر في العنوان، يتلوها تقديم لماهية الحق في الصحة بموجب القانون الدولي. 

“حقوق الإنسان”:

(1) هناك مداخل مختلفة للحديث ولفهم حقوق الإنسان. المدخل القانوني أحدها، ولكن المفهوم القانوني لحقوق الإنسان لا يستنفد تلك المفاهيم. فالمداخل لفهم والتعامل مع “حقوق الإنسان” متعددة. (أمثلة أخرى لتلك المداخل قد تكون الدين، وقد تكون الطبيعة، وقد يكون التاريخ، والسياسة). المفهوم التاريخي والسياسي على سبيل المثالث يقودنا لنقاشات واسعة حول كيفية تطور منظومة حقوق الإنسان وعدم مشاركة الكثير من الدول المعاصرة بما فيها الكثير من الدول العربية والإسلامية في عملية تحضير وإصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهل يمكن اعتبار هذه الحقوق عالمية أم غربية؟ كذلك هناك نقاشات كبيرة حول مدى اعتبار حقوق الإنسان تطور نظري فلسفي مرتبط بنظريات تطورت تعطي للفرد، الإنسان، مكانة هامة كونه دائما غاية وليس وسيلة، أم أنه جاء كردة فعل ضمن إطار نظرية الدولة لتقييدها في ظل الانتهاكات الجسيمة التي تمت بعد الحرب العالمية الثانية. تبني أحد هذين المدخلين سيؤثر على الفهم القانوني لحقوق الإنسان بالضرورة.

(2) هناك طرق مختلفة قانونية للتعامل مع حقوق الإنسان، منها المذهب الوضعي، الذي يذهب باتجاه سلطة عام تقرر وتحدد الحقوق الملزمة وواجبة التطبيق، بطريقة رسمية. ولكن المذهب الوضعي ليس المدخل الوحيد لفهم حقوق الإنسان قانونياً. هناك مداخل أخرى مثل القانون الطبيعي. القانون الديني. المدارس النقدية للقانون ومن بينها المدرسة النسوية وغيرها. ومن هنا النقاشات حول مدى قيام الدول بقرار منها بتحديد ما هو حق للإنسان أم أنها تقبل أن للإنسان حقوق ملزمة للدول ومقيدة لسيادتها. ماذا عن تلك الحقوق التي لا تنظمها الدولة؟ ماذا عن الحقوق الواردة في اتفاقيات لم تصادق عليها الدول؟ ماذا عن تلك الحقوق التي لم يرد فيها نص في الدستور الرسمي في البلاد؟ هذا يحدد دور الدولة ومكانة الإنسان في تلك الدول. ماذا عن فهم للإنسان من منظور ديني (مثلاً على أنه إنسان مخلوق على صورة الله – مع أن العكس هو الصحيح، نحن اخترعنا صورة الله كما نعرف الإنسان وأعطيناه صفات نعرفه عن الإنسان بالأساس). فماذا لو كانت الديانات بقوانينها الملزمة على المنتمين إليها حددت حقوقا مختلفة لمن ينتمي لديانة واستثنت الآخرين؟ كيف يمكن عملياً مصالحة حقوق الإنسان مع حقوق المؤمنين وغير المؤمنين؟

(3) هناك طرق مختلفة وضعية في القانون للتعامل مع حقوق الإنسان، يذهب أحدها باتجاه القانون الدولي. ولكن القانون الدولي لا يستنفد الطرق القانونية الوضعية الممكنة. فهناك القانون الوطني أيضاً وهو، مع القانون الدولي، يتنافس في حكم الافراد داخل الدولة خاصة في مجال حقوق الإنسان. وهنا السؤال كيف يمكن مصالحة الالتزامات المختلفة بين القانون الدولي والقانون الوطني؟ ما الذي يسري في حال التناقض بين ما ورد في اتفاقية دولية وما ورد في دستور دولة معينة أو في قانونها؟ والأمثلة كثيرة: منع التمييز ضد المرأة بموجب اتفاقية سيداو؟ كيف يمكن مصالحة تلك الالتزامات مع دساتير تشير إلى مكانة الشريعة في الدساتير وإلى قوانين أحوال شخصية تنظم بشكل قانوني مجالات مختلفة يظهر فيها التمييز جلياً بين الرجل والمرأة في مجالات مختلفة يصعب حصرها في هذه المحاضرة.

(4) وهناك طرق مختلفة وضعية قانونية دولية للتعامل مع حقوق الإنسان أهمها اليوم الاتفاقيات الدولية. لكن الاتفاقيات الدولية لا تنستفذ هذه الطرق وتبقى للقانون الدولي العرفي مكانته والزاميتها للدول في مكانها حتى في حال المصادقة على اتفاقية دولية. ماذا عن الدول التي لم تصادق على اتفاقيات دولية معينة – مثلا الولايات المتحدة لم تصادق على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ ما العمل في حال أن بعض الأنظمة القضائية لدول صادقت على اتفاقيات دولية (مثل إسرائيل التي تتبني الطريقة الثنائية في التعامل مع القانون الدولي) ترفض التطبيق المباشر للاتفاقيات الدولية والتي تعتبرها مصدرا للالتزامات تجاه الحكومة فقط وغير قابلة للانفاذ من خلال المحاكم؟ ماذا عن حقوق الإنسان الأساسية التي لم يرد ذكرها في الاتفاقيات الدولية – مثلا الحق في الماء (موجود الحق في الغذاء ولكن ليس الحق في الماء!)

(5) حقوق الإنسان أيضاً مهمة على مستوى النظام القانوني الوطني. جزء مهم من هذه الأهمية تكمن اليوم في المكانة الدستورية لحقوق الإنسان سواء بالإشارة الصريحة لحقوق الإنسان في الإعلانات والاتفاقيات الدولية أو للنص صراحة على بعض الحقوق (الأساسية) ضمن الدستور نفسه وإعطاء تلك الحقوق مكانة دستورية ملزمة للحكومة وللجهات التشريعية بما في ذلك البرلمان بحيث أصبح بالإمكان لمحاكم متخصصة أن تبطل أو تعلق العمل بالتشريع الذي يخالف الدستور بما في ذلك قائمة الحقوق والحريات الأساسية الواردة فيه. لكن ما العمل في حال أن النصوص الدستورية فيها مشكلة من حيث الصياغة للحقوق وتقييدها باحترام النظام العام أو الإمكانيات المالية أو حتى التقييدات الأخرى المرتبطة بالمرجعيات الأخرى للدستور مثل الشريعة أو الإرث الثقافي والتاريخي وما شابه؟

(6) من بين النقاشات الهامة والتي لا يمكننا أن نغطيها اليوم في نقاشنا هو حول مدى اعتبار حقوق الإنسان “عالمية” مقابل كونها محددة باسم “الخصوصية”، الثقافية، الدينية، التاريخية والقانونية وما شابه. من بين القضايا التي يمكن أن يكون هذا الموضوع مؤثرا عليه – هو النقاشات المتعلقة بحق المرأة بالصحة ولكن أيضاً بالسلامة الجسدية، فيما يسمى “ختان الإناث” – والتي يعبر عن السوء الذي يحدث من خلالها المصطلح الإنجليزي Female Genital Mutilation. فهل يجوز باسم الخصوصية الثقافية أو الدينية أن نقبل مثل هذه الممارسات؟

(7) والحق في الصحة بموجب القانون الدولي يختلف درجات تطبيقه والتزامات الدول به انطلاقا من الإطار القانوني الناظم له – فإطار القانون الدولي لحقوق الإنسان يختلف عن إطار القانون الدولي الإنساني. والإنساني بهذا المعنى أقل إنسانية كونه يعطي مساحة أوسع للدول لتقييد الحقوق والحريات. وتطبق الحقوق والحريات بحدودها الدنيا والأساسية اثناء النزاعات المسلحة. باسم أن الخاص يقيد العام والقانون الدولي الإنساني يعتبر بهذا المعنى lex specialis فيما يتعلق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان. فالتزامات دولة الاحتلال باسم الحق في الصحة للأفراد الخاضعين لولايتها تكون في حدودها الدنيا وتكون بالعادة محددة بالإضافة للمحددات الطبيعية للدول (الإمكانيات المادية والحاجة للتغيير التدريجي) إلا أن الضرورة العسكرية تضاف إلى الأسباب التي تعطي لدولة الاحتلال إمكانية التقييد الإضافي للحقوق الأساسية بما فيها الحق في الصحة. من هنا ما هي التزامات دولة الاحتلال عندما يتعلق الامر بالحواجز التي تؤدي لمنع النساء من الوصول إلى المستشفيات للولادة. وهل تعتبر الضرورة العسكرية سبباً كافيا لمنع النساء من الولادة في المستشفيات عملياً أو إعاقة وصولهم الآمن للمستشفيات؟ ماذا عن غزة ووصول الأجهزة والأدوية الضرورية لبعض الأمراض؟ ما هي مسؤولية دولة الاحتلال التي تدعي بأنها لم تعد تحتل غزة ولكنها تمنع عملياً دخول تلك المعدات والأدوية في بعض الأحيان؟ وماذا عن سلطة الدول بتحديد من يدخل أراضيها فهل هذا يشمل سلطة دولة الاحتلال بالسماح بدخول الغزاويين إلى أراضيها للعلاج أو إلى باقي المناطق الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس للعلاج مثلا من امراض السرطان التي لا يوجد لها علاج في غزة؟

(8) والحق في الصحة بموجب القانون الدولي يتعامل مع دول وليس مع أفراد أو تجمعات أخرى غير الدول. فهل ما يقوم به بعض مواطني الدولة بما يخالف الحقوق الأساسية يشكل انتهاكا لحقوق الإنسان بموجب القانون الدولي للدولة نفسها؟ ماذا عن جرائم المستوطنين في الأرض الفلسطينية المحتلة؟ هل يترتب عن ذلك مسؤولية على الدولة لقيام بعض المواطنين فيها بمخالفات جسيمة تنتهك حقوقاً أساسية؟ هل قيام بعض الجماعات باسم الدين بممارسات مخالفة للحق في الصحة يترتب عليه مسؤولية على الدولة نفسها؟ في ظل أن من قام بذلك ليس الدولة أو أحد أجهزتها وممثليها الرسميين؟ ماذا عن سلطة حماس في قطاع غزة وهي سلطة أمر واقع بالمقارنة مع ما هو معترف به للسلطة الفلسطينية؟ ماذا عما يقوم به الجيش في الأرض الفلسطينية المحتلة وعلى من تقع المسؤولية في هذه الحالة؟ هل يوجد على السلطة الفلسطينية مثلاً مسؤولية تجاه الفلسطينيين في مناطق غير خاضعين لولايتها؟

أما بخصوص “الصحة” فهنا أود أيضاً أن أبدأ ببعض الملاحظات:

(1) فهناك أهمية للصحة في موضوع حقوق الإنسان كونها، بإضافة “العامة” بعدها، تصبح من بين الطرق التي تتيح للدول تقييد الحقوق والحريات. فالصحة العامة بهذا المعنى هي من بين الحالات الأربع التي تعطي للدول عملياً ممارسة سلطة الضبط الإداري (بالإضافة للسلامة العامة والأمن العام والسكينة العامة – يضاف لها في بعض الحالات الأخلاق العامة). فالدول تقيد حقي في التنقل باسم الأمن العام والسلامة العامة والسكينة العامة. فصحيح هناك حقوق للطفل وحقول للوالدين بخصوص أطفالهم وتربيتهم – إلا أنه وباسم الصحة العامة يمكن للدولة أن تلزم المواطنين وتحت طائلة المسؤولية على تطعيم أطفالهم. بل يتعرض بعض الأهل الذين يرفضون مبدئياً التطعيم للأطفال من منطلقات علمية أو ثقافية أو دينية على ذلك وتحت طائلة المسؤولية. ومن هنا أيضاً وباسم الصحة العامة تقوم الدول بالزام المواطنين بعدم القيام ببعض الممارسات الضارة بصحتهم (ولكنها تسمح بغيرها الكثير مثل التدخين) مثل استخدام المواد المخدرة.

(2) كذلك من بين الحالات التي يمكن فيها التنصل من تطبيق الاتفاقيات الدولية بموجب المادة 4 من العهد الدولي للحقوق السياسة والمدنية: “في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي.” ومن بين هذه الحالات الصحة العامة – مثلا في حالة الكورونا كما ذكرنا. حيث تمكنت “دولة فلسطين” باسم الصحة العامة ليس فقط تقييد الحقوق والحريات من خلال سلطة الضبط الإداري بل رفعت مستوى الحظر لتقييد حقوق أساسية وارد نصها في الدستور وفي المواثيق الدولية فقررت منع الحركة والتنقل بل حتى أجبرت المواطنين في مرحلة معينة على عدم مغادرة البيت، وذلك باسم الصحة العامة. كما حدث في بداية الكورونا عند إعلان حالة الطوارئ في فلسطين وتطبيق إجراءات صارمة على حركة الناس واختلاطهم ببعض. حيث أرسلت فلسطين إلى الأمين العام للأمم المتحدة  رسالة معلنة فيها تبين فيها إعلانها للطوارئ رسميا وأنها ستقيد بعض الحقوق الأساسية لحماية الصحة العامة للمواطنين.

(3) لكن الصحة أيضاً حق فردي. والحق في الصحة بهذا المعنى ليس مطلقا. فهو أحد حقوق الإنسان الأساسية بالطبع. له معنى محدد في الاتفاقيات الدولية وله معنى محدد في القوانين والدساتير الوطنية. ليس منفصلا عن باقي الحقوق وليس له بشكل مبدئي أولوية على غيرها من الحقوق. فالحق بالصحة مرتبط ارتباط وثيق بالحق في الحياة. وبالحق في السلامة الجسدية. ومرتبط أيضاً بالحق في الحرية. ومن هنا الكثير من التساؤلات المرتبطة بخيارات الإنسان الحرة والتي يكون لها أثر على صحته الجسدية والنفسية وهل يمكن للدولة أن تلزم فرداً باسم الحق بالصحة على علاج لا يرغب فيه؟ أو على ترك عادات ضارة بالصحة لا يرغب بحرية أن يختارها؟ هناك مثال extreme – ماذا عن انسان يقرر بحرية بأنه لا يرغب “بنقل الدم” في حال كان هذا ضروريا لاسباب صحية ولكنه يرفضه لاسباب دينية (مثل شهود يهوى؟). ويختار عملياً ان يموت؟ هل يمكن أن يجبر الإنسان باسم الحق بالصحة على أخذ علاج معين؟ ماذا عن الشخص الذي يقرر “do not resuscitate” في الحالات التي تكون ضرورية؟ ماذا عن عدم أخذ العلاج أو التوقف عن أخذ العلاج؟ هل الحق في الصحة حقيقة حق أم يترتب عليها التزامات؟ (بهذا المعنى، الحق في الحياة يتناقض مع الانتحار كونه يلزم الدولة بمنع الأفراد من الانتحار أيضاً وعلى الدول التزامات باسم حقوق الإنسان للتقليل حالات موت الأفراد بهذه الطريقة!)

(5) الحق في الصحة ليس منفصلا عن باقي الحقوق – فأحد المداخل الضرورية للحق في الصحة (وهو من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية) تكون مثلاً في الحق في المساواة (ضمن الحقوق السياسية والمدنية). كذلك الحق في الصحة مرتبط في الحق بالحياة والحق في السلامة الجسدية أيضاً. وهكذا.

بعد هذه المقدمة التي أخذت نصف المحاضرة، أود أن أشير إلى أنه بالنسبة للباحثين في مجال الصحة، أحيانا حقوق الإنسان تشكل مرجعية لهم في عمله لتحديد ماهية الالتزامات المترتبة على الدول تجاه “الصحة” سواء العامة منها أو الصحة كحق فردي. ومن هنا أود أن أعطي أحد هذه المداخل الضروري أخذها بعين الاعتبار عند البحث في التزامات الدول تجاه المواطنين فيما يتعلق بالحق بالصحة، وذلك انطلاقات من التزامات الدول القانونية، الوضعية، بموجب القانون الدولي، وبالتحديد الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة. فما هي التزامات الدول بخصوص “الحق في الصحة”؟

هناك 4 أسئلة أولية يجب طرحها بداية قبل الحديث عن “الحق في الصحة” بموجب القانون الدولي التعاقدي – مثلاً بموجب العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المادة 12) واتفاقية حقوق الطفل (المادة 24):

(1) هل صادقت أو انضمت الدولة على الاتفاقية المعنية؟ إذا كان الجواب نعم يمكن أن تستمر بالسؤال التالي. إذا لا. انسى الموضوع وابحث عن طريقة أخرى للحديث عن التزامات الدول بموجب الحق في الصحة.

(2) هل دخلت الاتفاقية الدولية المعنية حيز التنفيذ؟ والمقصود أنها دخلت بشكل عام حيز التنفيذ (كونها وصلت للحد الأدنى المطلوب من طلبات المصادقة أو الانضمام) وبشكل خاص (من حيث مرور المدة الزمنية بعد المصادقة أو الانضمام وبالعادة تكون 30 يوم). إذا كان الجواب نعم يمكن أن تستمر. إذا لا، انسى الاتفاقية وابحث عن مصدر آخر لالزام الدول.

(3) هل عبرت الدول عن تحفظاتها بخصوص الاتفاقية أو بعض موادها؟ في حال أبدت تحفظات على تلك المواد المعنية بالحق بالصحة لا يمكن الادعاء بوجود التزامات على الدول التي تحفظت فهي تصادق على باقي الاتفاقية ما عدا المواد التي تحفظت عليها. وبالتالي في هذه الحالات يجب البحث عن مصدر آخر لالزام الدول بالحق في الصحة.

(4) هل قامت الدول بسبب حالة الطوارئ بتقييد بعض الحقوق والحريات؟ في حال الحقوق السياسية والمدنية هناك إشارة واضحة لذلك كونها حقوق سلبية موجبة التطبيق المباشر وبالتالي عدم تطبيقها يحتاج لاستخدام المادة 4 من العهد الدولي. لكن في حال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فالاتفاقية لا تتحدث عن حالات طوارئ لتقييد تلك الحقوق بل أن نص الاتفاقية نفسه يبيح هذه الإمكانية لحين توفر الإمكانيات المناسبة سواء للمواطنين بشكل عام وبشكل خاص لغير المواطنين.

فلنقرأ المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: “1. تتعهد كل دولة طرف في هذا العهد بأن تتخذ، بمفردها وعن طريق المساعدة والتعاون الدوليين، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والتقني، وبأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة، ما يلزم من خطوات لضمان التمتع الفعلي التدريجي بالحقوق المعترف بها في هذا العهد، سالكة إلى ذلك جميع السبل المناسبة، وخصوصا سبيل اعتماد تدابير تشريعية. 2.  تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بأن تضمن جعل ممارسة الحقوق المنصوص عليها في هذا العهد بريئة من أي تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا أو غير سياسي، أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الثروة، أو النسب، أو غير ذلك من الأسباب. 3.  للبلدان النامية أن تقرر، مع إيلاء المراعاة الواجبة لحقوق الإنسان ولاقتصادها القومي، إلى أي مدى ستضمن الحقوق الاقتصادية المعترف بها في هذا العهد لغير المواطنين.

بعد هذه الأسئلة، ولمعرفة التزامات الدول من حيث الحق في الصحة علينا أن نسأل أنفسنا 5 أسئلة أخرى:

(1) الموضوع subject matter is protected under international law: هل الممارسة التي نعتبرها انتهاكا للصحة تعتبر موضوعا جزء من الحق في الصحة؟ فمنع شخص من أكل الكعكة في الثلاجة أو شرب القهوة الإيطالية ليس من بين القضايا المحمية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. فعند السؤال حول بعض العلاجات التجميلية التي لا توفرها الدولة وإنما تكون مرهونة بتوفر موارد مالية شخصية للافراد – فهل العلاجات التجميلية موضوعيا هي من بين ما يدخل في موضوع الحق في الصحة؟

(2) الضحية: حقوق الإنسان تمثل حقوقا كما إسمها للإنسان. يبقى السؤال هنا في حال ضحايا أخرى غير الإنسان فهل يمكن الادعاء بوجود إلتزامات على الدول؟ فمثلا عدد الوفيات الناتجة عن الولادة للخراف – وهو بالطبع شيء مؤلف – نتيجة عدم وجود ظروف صحية مناسبة، هل يشكل مصدر إلتزامات على الدول بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان؟ الجواب واضح هنا بأنه لا – لكن في حالات أخرى قد يكون اقل وضوحاً. فهل صحة الجنين مثلاً تشكل في ذاتها (وبمعزل عن حق المرأة نفسها بالصحة) مصدر الزام للدول؟ هل الجنين لغايات القانون الدولي “محمي”؟ اليوم الموضوع يبدو غريباً أن نتساءل بخصوصه لكن في حالات الدول التي صادقت على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية وغيرها – فهل الخاضعين للاستعمار يشكلون “انسان” بالنسبة للمستعمر وبالتالي في حال كان الضحية من بين السكان الأصليين فهي يعتبر ذلك مخالفة للقانون الدولي التعاقدي؟ (للمعلومات ادخال المادة التي أشرت لها أعلاه من حيث إمكانية تهرب الدول في حالات الطورائ من تطبيق الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان جاءت بطلب من بريطانيا واستخدمت عملياً لتمكين الدول المستعمِرة من استثناء المستعمرين من حماية تلك الاتفاقيات لهم). بلجيكا صادقت على تلك الاتفاقيات ولكنها لم تمد ولاية تلك الاتفاقيات إلى الكونغو الخاضعة لها كمستعمرة. ماذا في حال وجود كائنات أخرى غير البشر – ماذا عن الروبوتات التي تقترب أكثر فأكثر من كونها تقوم “بالشعور” كالإنسان. فهل لها حقوق؟ ماذا عن الأشخاص الاعتباريين غير الأفراد – الشركات، الكنائس، المنظمات غير الحكومية؟ هل لها حقوق بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. الجواب طبعا في كل هذه الحالات لا كون الضحية يجب أن تكون شخص طبيعي، إنسان.

(3) منتهك الحق: يجب أن يكون الدولة أو من يمثلها. فقيام أفراد بممارسات من شأنها عملياً الانتقاص من الحق في الصحة لفرد آخر لا يترتب عليه مسؤولية على الدولة. عدم قيام شخص غني ببناء مستشفى خاص ومناسب وقريب لتأمين ولادة آمنة للأطفال والتقليل من حالات الوفاة لا يترتب عليه مسؤولية على الدولة. عدم قيام الكنائس والجمعيات الدينية بتأمين التطعيم لأفرادها ومؤمنيها لا يترتب عليه مسؤولية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. نحن نتحدث عن حالات يكون فيها الانتهاك من قبل الدولة أو من يمثلها. وطبعاً يمكن أن يكون الانتهاك من خلال “عدم القيام” بشيء ما أو عدم التعامل مع الحالات التي من شأنها الحاق الضرر في الصحة العامة. من حيث المبدأ قيام شركة بتلويث الجو أو المياه ملحقة ضرر بالصحة العامة للأفراد بحد ذاته لا يرتب على الدول مسؤولية بل تكون المسؤولية في حال أن ذلك تم نتيجة تصاريح أعطتها الدولة أو في حال عدم قيام الدولة بملاحقة المتسببين بهذا الضرر.

(4) المكان: من المهم التركيز على مكان الضحية ومكان الانتهاك الذي تم. ففرنسا ليست مسؤولة من حيث المبدأ عن زيادة عدد الوفيات للأطفال أو قلة المستشفيات في بريطانيا. لكن يبقى التساؤل مفتوحا في حالات الدول التي خضعت أو التي ما زالت تخضع نتيجة سياسيات الدول الأخرى والمنظمات الدولية بموجب ديون أو حصار مالي أو حقيقي مما يؤدي لزيادة عدد الوفيات. فهل يوجد مسؤولية على الدول التي شاركت في حصار العراق لما نتج عن ذلك من زيادة عدد الوفيات لدى الأطفال نتيجة نقص الأدوية والمستشفيات؟ ماذا عن أطفال غزة؟ ماذا عن نساء غزة التي لا تستطيع أن تتلقى الفحوصات المناسبة والكافية لسرطان الثدي وعدم وجود أجهزة كافية لمعالجة السرطان في قطاع غزة. هذه الانتهاكات للحق في الصحة تمت في منطقة أخرى غير إسرائيل فهل على إسرائيل مسؤولية؟ هل على السلطة مسؤولية كونها تمت في منطقة لا تسيطر عليها؟ هل يوجد مسؤولية على السلطة أو إسرائيل بخصوص تكاليف العلاج التي تتم في مستشفيات القدس؟ وهكذا.

(5) الزمان: هل الانتهاك الذي تم للحقوق الأساسية تم بعد دخول الاتفاقية المعنية حيز التنفيذ؟ بشكل عام وبشكل خاص وما أشرنا له سابقاً. قبل تحققنا من حيث وجود الالتزام بالحق بالصحة والآن نتحقق على ضوء الانتهاك الذي تم.

 

أخيراً، فلننظر إلى المادة 12 من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمادة 24 من اتفاقية حقوق الطفل، فما المقصود بالحق في الصحة؟

(1) الحق في الصحة لا يعني الحق في صحة جيدة. The right to health does not mean the right to be healthy.  ببساطة ليس هذا هو الحق في الصحة المقصود بالقانون الدولي. فهذا يتجاوز إمكانيات الدول المادية ولكن، الأهم، فهذا يتجاوز وضعنا البيولوجي الطبيعي، فكلنا سنمرض والحق بالصحة لا يعني بأن على الدولة مسؤولية لكي تضمن أننا لا نمرض.

(2) الحق بالصحة بموجب القانون الدولي بهذا المعنى يعني التمتع ببعض الخدمات الطبية المحددة وتوفر المرافق والأدوية الأساسية وتوفير الظروف المعيشة الصحية الأساسية (الغذاء والماء والصرف الصحي، السكن، الخ). ليس أقل – وليس أكثر طبعاً.

(3) هذا يعني بالتحديد وبموجب الاتفاقية الدولية:[1]

(أ) على الدول التقليل من حالات الوفيات لدى الأطفال وضمان وجود تنمية مناسبة لصحة الأطفال. وهذا يقتضي اتخاذ الإجراءات الوقائية للحوامل وللأطفال.

(ب) على الدول الحد من المخاطر الصحية البيئية والصناعية. مثلا في حال المحططات النووية على الدول اتخاذ إجراءات لمنع التسرب الإشعاعي. هذا أيضاً يعني عدم رمي النفايات النووية في مناطق قريبة من السكان وتؤثر على صحتهم.

(ج) الوقاية من الأمراض وعلاجها ومكافحتها. وهذا يشمل على سبيل المثال اتخاذ إجراءات وقائية تمنع انتشار الأمراض المعدية مثلاً في مخيمات اللاجئين.

(د) تمكين المساعدة الطبية للمرضى. هذا يغطي كلا من الأمراض الجسدية والعقلية وتمكين الوصول المتكافئ وفي الوقت المناسب إلى المرافق والسلع والخدمات الصحية.

(4) وقد قامت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (وهي اللجنة المؤهلة بموجب تلك الاتفاقية لضمان احترام الدول المتعاقدة بتلك الاتفاقية) بالتوضيحات التالية لما يشمله الحق في الصحة من خلال توصياتها المختلفة:[2]

(أ) يجب أن تكون المرافق والسلع والخدمات الصحية في متناول اليد. وجدت محكمة العدل الدولية أن بناء الجدار والقوانين المرتبطة به تنتهك هذا الجانب من الحق في الصحة. يجب أن تكون المرافق والسلع والخدمات الصحية ميسورة التكلف للجميع، لتجنب التمييز على أساس الدخل.

(ب) يجب أن يكون هناك عدد كاف من المرافق الصحية العاملة، وخدمات عالية الجودة، والسلع داخل بلد معين. بالضبط كم هو كاف سيعتمد على مستوى تنمية ذلك البلد.

(ج) الخدمات الصحية والمرافق والسلع والأدوية والمياه والغذاء والمأوى والصرف الصحي يجب أن تكون ذات جودة كافية حتى لا تهدد صحة المرضى.

في عام 2001 ، أعربت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عن الشواغل التالية لإسرائيل (“الدولة الطرف”): تعرب اللجنة عن بالغ قلقها إزاء استمرار الدولة الطرف في الانتهاكات الجسيمة للحقوق الاقتصادية، والاجتماعية والثقافية، في الأراضي المحتلة ، ولا سيما التدابير الصارمة التي اتخذتها الدولة الطرف لتقييد حقوق الإنسان التي تعيق تنقل المدنيين بين نقاط داخل الأراضي المحتلة وخارجها ، مما يقطع وصولهم إلى الغذاء والماء، الرعاية الصحية والتعليم والعمل. وتشعر اللجنة بقلق خاص لأن الدولة الطرف في مناسبات متكررة منعت سياسة الإغلاق المدنيين من الوصول إلى الخدمات الطبية وأن حالات الطوارئ قد انتهت في بعض الأحيان في الموت عند نقاط التفتيش. وتشعر اللجنة بالقلق إزاء التقارير التي تفيد بأن قوات الأمن الإسرائيلية أعادت الإمدادات بعثات اللجنة الدولية للصليب الأحمر والأونروا الذين يحاولون إيصال الغذاء والماء والإغاثة الطبية إلى المناطق المتضررة”.

سأترك جانبا ما يسأل بالعادة حول مدى وجود آليات تعاقدية وغير تعاقدية لضمان احترام الدول لحقوق الإنسان. فهذا قد يكون موضوعا متروكا للنقاش.

المادة 12

1. تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه.

2. تشمل التدابير التي يتعين على الدول الأطراف في هذا العهد اتخاذها لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق، تلك التدابير اللازمة من أجل:

(أ) العمل علي خفض معدل موتي المواليد ومعدل وفيات الرضع وتأمين نمو الطفل نموا صحيا،

(ب) تحسين جميع جوانب الصحة البيئية والصناعية،

(ج) الوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها،

(د) تهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض.

* محاضرة عامة في معهد الصحة العامة والمجتمعية بتاريخ  2/2/2023

[1] Course material prepared by Marko Divac Öberg, Mandatory Readings for Human Rights, p.17.

[2] Course material prepared by Marko Divac Öberg, Mandatory Readings for Human Rights, p.18.

Leave a comment