ما هي مكانة الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها منظمة التحرير ودولة فلسطين؟ (2015)

يتساءل الكثيرون حول وضع الاتفاقيات الدولية في فلسطين، سواء تلك التي صادقت عليها منظمة التحرير (اتفاقيات أوسلو) أو تلك التي صادقت عليها “دولة فلسطين” مؤخراً – لاحقا لاعتراف الجمعية العامة بها كدولة مراقب غير عضو. والصحيح أنه وجب التمييز ما بين نوعي الاتفاقيات من وجهة نظر القانون الدولي أولاً، وما بين موقف القانون الدولي بخصوص المصادقة على اتفاقيات دولية وموقف القانون الوطني أو القانون الدستوري.

فمن وجهة نظر القانون الدولي، لا تنطبق اتفاقية فينا الخاصة بالمعاهدات إلا على الاتفاقيات التي تتم بين الدول، وبهذا فإن اتفاقية أوسلو (كونها تمت بين منظمة التحرير الفلسطينية – كشخص من أشخاص القانون الدولي العام، ولكنها ليست دولة – وإسرائيل) فلا تنطبق عليها اتفاقية فينا لقانون المعاهدات وإنما ينطبق عليها القانون الدولي العرفي الخاص بالمعاهدات الدولية. أما الاتفاقيات التي صادقت عليها فلسطين مؤخراً، ومن بينها اتفاقية فينا الخاصة بالمعاهدات، فهي تمت من قبل “دولة” وبالتالي تنطبق عليها اتفاقية فينا لقانون المعاهدات. وعليه، فإن الإشكاليات المرتبطة بمكانة اتفاقية أوسلو من حيث القانون الدولي (كونها لا تسري عليها اتفاقية فينا لقانون المعاهدات) ليست موجودة في حالة الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها فلسطين مؤخراً.

أما بالنسبة لقانون المعاهدات، فإن الانضمام إلى معاهدة دولية أو المصادقة عليها من قبل الجهة التي تمثلها (رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو وزير الخارجية والذي يفترض أنه يمثل تلك الدولة بالنسبة للمجتمع الدولي) كاف لاعتبار هذه الاتفاقية ملزمة بالنسبة للدولة – وبغض النظر عن الإجراءات الوطنية اللازمة لمشروعية المصادقة من حيث القانون الوطني. وبهذا لا يجوز – من وجهة نظر القانون الدولي – أن يعتد بالقانون الوطني للتنصل من الالتزامات الدولية.

لكن الأمر مختلف بالنسبة للقانون الوطني. فمكانة الاتفاقيات الدولية والإجراءات اللازمة للمصادقة عليها تختلف من دولة لأخرى. فمن حيث مكانة الاتفاقيات الدولية، وباستثناءات قليلة، تكون بالعادة مكانة الاتفاقيات الدولية أعلى من القانون العادي وأقل من الدستور. بحيث لا تجيز الكثير من الدول المصادقة على اتفاقية دولية في حال مخالفتها للدستور. فإما أن تعدل الاتفاقية أو يعدل الدستور كشرط للمصادقة على تلك الاتفاقية. أما في حال وجود تعارض مع القانون الوطني، فالدول التي تعتمد النظام الموحد أو الوحدوي تكتفي بالمصادقة على الاتفاقية الدولية لتصبح تلك الاتفاقية جزءا من النظام القانوني الوطني. وفي حال تعارض قانون صادر عن البرلمان مع الاتفاقية الدولية، تطبق المحاكم – أي المحاكم الوطنية في كل درجاتها – ما ورد في الاتفاقية الدولية بمثابة القانون الأعلى (مقارنة بالقانون الوطني الذي يحتل مكانة أدنى من الاتفاقيات الدولية). أما الدول التي تتبنى النظام المزدوج فتحتاج الاتفاقية لسريانها إلى قيام البرلمان بعكس محتوى تلك الاتفاقيات من خلال تشريع صادر عنه. وبهذا تكون مصدر إلزامية الاتفاقية الدولية صدورها بقانون من البرلمان وليس المصادقة على تلك الاتفاقية بحد ذاته.

بناء على ما سبق، ما هي مكانة الاتفاقية الدولية في فلسطين؟

من حيث مكانة الاتفاقيات الدولية في فلسطين، خاصة في ظل مصادقة رئيس دولة فلسطين على عدد من الاتفاقيات الدولية ممثلاً عن دولة فلسطين على ضوء قبول عضوية فلسطين في هذه الاتفاقيات كونها “دولة” وليس ممثلا عن منظمة التحرير – وهي شخص من أشخاص القانون الدولي العام. علماً بأنه في الماضي (بعد إعلان الاستقلال عام 1988) تم رفض انضمام فلسطين على سبيل المثال لاتفاقيات جنيف الأربعة كونها لم تكن دولة وكذلك تم رفض طلبها الانضمام لميثاق روما للسبب نفسه. إذن مصادقة رئيس دولة فلسطين – من وجهة نظر القانون الدولي – تُلزم دولة فلسطين بغض النظر عن مدى كون تلك المصادقة تمت بموجب الإجراءات الوطنية اللازمة للمصادقة على الاتفاقيات، كما أنه من وجهة نظر القانون الدولي، لا يمكن لفلسطين أن تعتد بالقانون الوطني للتنصل من التزاماتها الدولية بموجب تلك الاتفاقيات التي صادقت عليها.

لكن ماذا عن مكانة تلك الاتفاقيات من وجهة نظر القانون الوطني؟ وبالذات القانون الدستوري؟

نبدأ من حيث إجراءات المصادقة على الاتفاقيات الدولية، حيث خلى القانون الأساسي من إشارة إلى أي إلتزامات على السلطة الفلسطينية من حيث إجراءات المصادقة على الاتفاقيات الدولية. فرئيس السلطة لم يأخذ موافقة المجلس التشريعي كما لم يصدر قرار بقانون يتم بموجبه المصادقة على تلك الاتفاقيات. وعليه، فإن رئيس السلطة عند مصادقته على تلك الاتفاقيات لم يكن قد مارس اختصاصا بتفويض دستوري أو تنفيذا لاختصاص دستوري صريح. ومن حيث ما نعرفه عن القانون الدستوري، فلا اختصاص بدون نص. فهل تعتبر مصادقة رئيس دولة فلسطين على الاتفاقيات الدولية دستورية؟

آخذين بعين الاعتبار طبيعة النظام السياسي والدستوري الفلسطيني، نرى بأن هناك اختصاص ضمني لرئيس دولة فلسطين بالمصادقة على الاتفاقيات الدولية كونه رئيس الدولة وممثلاً لها.  لكن هل هناك ما يلزم رئيس الدولة من أخذ موافقة جهات أخرى في ظل غياب نص دستوري ينظم هذه العملية؟ على سبيل المثال هل هناك ما يلزم رئيس دولة فلسطين على أخذ موافقة المجلس التشريعي قبل المصادقة على اتفاقيات دولية؟ إن عدم وجود تنظيم دستوري صريح، وتفعيل مفهوم الاختصاص الضمني لرئيس الدولة، لا يمكنه أن يؤدي إلى الاستنتاج بوجود مثل هذا الالتزام – وهو التزام يبرر بالعادة بوجود نص دستوري يلزم بإجراءات محددة للمصادقة على الاتفاقيات الدولية يكون من بينها إشراك ممثلي الشعب في عملية المصادقة على الاتفاقيات الدولية. لكن هذا غير موجود في فلسطين وبالتالي لا يمكن أن ندعي بوجود اختصاص ضمني للمجلس التشريعي للموافقة المسبقة على الاتفاقيات الدولية كشرط لصحة إجراءات المصادقة على الاتفاقيات الدولية في ظل غياب النص الناظم لعملية المصادقة على الاتفاقيات الدولية.

لكن ماذا عن مكانة تلك الاتفاقيات في النظام الوطني الفلسطيني؟ وهل يؤثر غياب التنظيم الدستوري لعملية المصادقة على الاتفاقيات الدولية في مكانة تلك الاتفاقيات الدولية؟ 

أذكر بأنه بالنسبة للقانون الدولي، فإن الإجراءات الوطنية اللازمة للمصادقة على الاتفاقيات الدولية أو التنظيم الدستوري اللازم لعملية إدماج الاتفاقيات الدولية ضمن المنظومة الوطنية، لا يؤثر حول مكانة وسمو الاتفاقيات الدولية. لكن من وجهة نظر القانون الوطني، فإن الدستور في العادة يحدد مكانة الاتفاقيات الدولية وإجراءات المصادقة عليها. وهو ما خلى في الحالة الفلسطينية. وقد أجبنا في المدونة السابقة بأن عدم وجود تنظيم لإجراءات المصادقة لا يعني بأنه لا يمكن المصادقة على الاتفاقيات الدولية من قبل الجهة التمثيلية للدولة بموجب مفهوم الاختصاصات الضمنية وبأن هذا المفهوم لا يمكنه أن يبرر بذاته الإدعاء بوجود إلزام باستشارة أو أخذ موافقة البرلمان (المجلس التشريعي) أو أي جهة أخرى.

لكن ماذا عن مكانة الاتفاقيات الدولية في النظام القانوني الفلسطيني؟ هل يمكن للمحاكم المختلفة أن تطبق ما ورد في هذه المعاهدات الدولية التي صادق عليها رئيس دولة فلسطين؟ أجيب وببساطة لا.

حيث نظم القانون الأساسي إجراءات التشريع من خلال القانون حيث جعل هذا الاختصاص للمجلس التشريعي (وفي حالات الضرورة، لرئيس السلطة من خلال القرار بقانون). وبهذا فإن المعاهدة الدولية – وإن ألزمت دولة فلسطين إلا أنه لا يمكن الاعتداد بكونها أعلى درجة من القوانين الوطنية – ومن باب أولى من كونها أعلى درجة من القانون الأساسي نفسه. بل لا يمكن أن يعتد بأي مكانة قانونية لتلك المعاهدات الدولية أمام المحاكم الفلسطينية.

بمعنى آخر، لا يمكن الافتراض بوجود مكانة للاتفاقيات الدولية ضمن الأنظمة القانونية الوطنية بدون وجود نص دستوري ينظم ذلك – وخاصة في ظل وجود نصوص صريحة من حيث الجهة المسئولة (المجلس التشريعي في حال القوانين، ورئيس السلطة في حال القرارات بقانون) عن تبني التشريعات. بمعنى آخر، حتى وإن كانت فلسطين – والتي تعتبر من حيث المبدأ بأنها أقرب لأنظمة “القانون القاري” أو أنظمة “القانون المدني” (بعكس أنظمة “قانون العموم” أو الأنظمة “الأنجلوسكسونية” التي تتبنى بالعادة النموذج المزدوج من حيث تعاملها مع الاتفاقيات الدولية)، إلا أنه في ظل غياب تنظيم لمكانة الاتفاقية الدولية لا نستطيع إلا أن نستنتج بأن تلك المعاهدات الدولية التي صادق عليها رئيس السلطة لا يمكن الاعتداد بها أمام المحاكم الفلسطينية ولا يمكن الادعاء بسريانها على النزاعات التي تتم في فلسطين وتنظر بها المحاكم الوطنية – وهو ما يعني بأن دولة فلسطين تنتهك التزاماتها الدولية من حيث عدم قيامها بما يلزم لضمان تطبيق المعاهدات الدولية.

في ظل غياب إشارة واضحة في القانون الأساسي أو في القانون الوطني الفلسطيني بشكل عام حول مكانة المعاهدات الدولية، استنتجنا بأنه لا يمكن الاعتداد بمكانة لتلك المعاهدات أمام المحاكم الوطنية. وعليه، ما الذي يمكن القيام به لكي تقوم فلسطين بالتزاماتها الدولية من حيث القيام بالتعديلات اللازمة لضمان تطبيق تلك المعاهدات الدولية في النظام القانون الوطني؟

هناك توجهان ممكنان. الأول يكون بتعديل القانون الأساسي بحيث يتم تنظيم مكانة المعاهدات الدولية في النظام القانوني الوطني الفلسطيني بحيث تصبح تلك المعاهدات – آخذين بعين الاعتبار طبيعة النظام السياسي والقانوني الفلسطيني – جزءا من النظام القانوني في فلسطين، وبشكل صريح، تكون أعلى من القانون وأدنى من القانون الأساسي. وحيث أن هذا التعديل ضرورياً لمنح المعاهدات الدولية مكانة أعلى من القانون الوطني، من الضروري أن يتم النص أيضاً على إجراءات المصادقة بحيث تحتوي على موافقة مسبقة للمجلس التشريعي على المعاهدة الدولية – كونها ستكون أعلى درجة من القوانين الصادرة عنه. فلا يعقل أن يمنح الدستور رئيس الدولة أو السلطة التنفيذية بشكل عام اختصاص تبني اتفاقيات دولية تعلو عن القوانين الصادرة عن ممثلي الشعب. لكن هذا التوجه صعب التحقق حالياً بسبب عدم انعقاد المجلس التشريعي وأيضاً لأنه تعديل جوهري لا يمكن أن يتم بتعديل بسيط للقانون الأساسي بل قد يكون ممكنا أن ينظم من خلال دستور لدولة فلسطين.

أما التوجه الآخر فهو أن يصدر المجلس التشريعي من خلال قانون أو رئيس السلطة من خلال قرار بقانون ما ورد في الاتفاقيات الدولية التي تمت المصادقة عليها. وبهذا تكون للاتفاقيات الدولية مكانة القانون العادي (وتسري عليها قاعدة اللاحق ينسخ السابق) دون الحاجة لإجراء التعديلات في أي قانون سابق قد يكون معارضا لما ورد في الاتفاقية الدولية. كما أن هذا يضمن الانسجام التام بين القانون الوطني من جهة والاتفاقية الدولية من جهة أخرى. لكن من سيئات هذا النموذج هو أن مكانة الاتفاقية الدولية تكون بمكانة القوانين العادية وبهذا فإن القوانين اللاحقة لصدورها بهذا الشكل قد تعدل ما ورد فيها.

إننا ومع تفضيلنا للتوجه الأول أعلاه إلا أننا نرى بعدم إمكانية تحقيقه الآني. وعليه نقترح أن يتم الأخذ بالتوجه الثاني – أي أن يقوم المجلس التشريعي من خلال قانون أو رئيس السلطة من خلال قرار بقانون بإصدار تلك المعاهدة (ببنودها وتفاصيلها) ضمن نص التشريع الصادر عن أي منهما (قانون أم قرار بقانون). وبهذا يمكن الاعتداد بعدها بهذه الاتفاقيات على أنها جزء من النظام القانون الوطني الفلسطيني. فقط في تلك الحالة يمكن للمحاكم أن تطبقها في فلسطين.

بناء على ما سبق: في ظل عدم وجود نص دستوري يوضع مكانة الاتفاقيات الدولية في النظام الوطني، وفي ظل تحديد جهة إصدار القوانين (والقرارات بقانون) فمن غير الممكن أن يتم افتراض مكانة أسمى للاتفاقيات الدولية على القوانين الوطنية كما لا يمكن الافتراض بضرورة قيام القضاء بالتطبيق المباشر للاتفاقيات الدولية في النظام القانوني الفلسطيني. لكن ماذا عن تلك القوانين التي أشارات للاتفاقيات الدولية بشكل عام (مثال الإشارة لاتفاقيات حقوق الإنسان في إحدى القوانين) أو تلك التي أشارت لاتفاقية بذاتها (مثل الاشارة لاتفاقية حقوق الطفل في قانون الطفل الفلسطيني)؟ هل هذا يمنح الاتفاقيات مكانة قانونية في فلسطين؟

الإجابة الأولية: بالطبع. لكن هذا يعني بأنه للاتفاقية الدولية التي يحال عليها من خلال هذا القانون أو ذاك مكانة القانون نفسه الذي يحيل للاتفاقية الدولية – أي لا يكون له مكانة القانون الأساسي نفسه كما لا يكون له مكانة أعلى من القوانين العادية.

وبهذا تكون مكانة تلك الاتفاقية المحال إليها مكانة القواعد القانونية الواردة في القانون نفسه الذي يحيل إليها فقط لا غير. وبهذا ينطبق عليها ما ينطبق على أي قانون من حيث إمكانية تعديلها بقانون لاحق (بموجب قاعدة أن اللاحق ينسخ السابق). وبهذا المعنى لا تعتبر مثل هذه الإحالة من خلال قانون عادي على أنه الطريق الأنسب لضمان تطبيق الاتفاقية الدولية في النظام القانون الوطني.

في حال وجدت لديكم آراء مغايرة، شاركوني برأيكم.

عاصم خليل، نشرت هذه #المدونة_الدستورية بالأساس في شهر نيسان 2015 على صفحة وحدة القانون الدستوري. علماً بأنه منذ ذلك التاريخ تم تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا وتم تعيين قضاة المحكمة وصدرت العديد من القرارات عن تلك المحكمة بما في ذلك قرارات مرتبطة بمكانة الاتفاقيات الدولية وقد كانت موضوع نقاش مستفيض في عدة منشورات لاحقة للمؤلف ننصح بالاطلاع عليها. وبالتالي وجب أخذ ما ورد في هذه المدونة على ضوء تلك التطورات وعلى ضوء تلك المنشورات.

تنويه: هذه #المدونة_الدستورية هو جهد شخصي للباحث هدفها تشجيع النقاش على #قضايا_دستورية_مقارنة وهي غير مدققة لغوياً أو محكمة والمعلومات الواردة فيها لم يتم توثيقها بموجب ما هو متعارف عليه. يرجى عدم الاقتباس أو الإحالة إلا بإذن شخصي من الباحث.

Leave a comment